You are currently viewing اِنْبَعَثْتُ من الرماد

اِنْبَعَثْتُ من الرماد

مع ظهور شبكات التواصل الاجتماعية وتعدد منتدياتها، تدفقت شهادات النساء عبر العالم وعلى نطاق واسع. حيث أصبحت العديد منهن تلجأن إلى هذه المنصات لمشاركة محنتهن أو طلب المشورة أو فقط للفضفضة. واِنْبَعَثْتُ من الرماد، هو العنوان الذي اختارته صاحبة القصة بنفسها، لسرد قصة حياتها.

غزلان هي واحدة من النساء اللواتي فضلن استعمال مواقع التواصل الاجتماعي للتواصل معي بهدف سرد حكايتها. وهي من طلبت مني نشرها حتى تصل لكل النساء.

حياة تقشف :

أنا غزلان، حتى وقت قصير كنت أعتقد أنني زوجة مثالية ومضحية. زوجة ضحت من أجل أولادها الثلاثة وقدمت من أجل ذلك كل ما يمكن أن تقدمه أم لأطفالها. في ظل زوج يخرج باكرا ويعود آخر اليوم، محملا ببعض الأغراض البسيطة جدا والكثير من الشكوى.

صبرت على طبعه القاسي المهمل وبخله الذي لا يضاهيه شيء. وكنت أصل منتهى السعادة، عندما أستطيع توفير أكل لذيذ لأولادي الثلاثة. أو عندما تزورني أمي أو إحدى أخواتي وتحضر لي كل ما يحتاجه المنزل والأطفال. كنت أوفر مما يحضرن ليغطي حاجيات أطفالي لأطول فترة ممكنة. كانت هذه أقصى متمنياتي.

وفي ظل هذا الاهمال العاطفي والمادي، كانت نتائج أطفالي الثلاثة هي عزائي الوحيد.

اِنْبَعَثْتُ من الرماد

بداية التفكك الأسري:

بدأ زواجي في التفكك، وتصاعدت الخلافات بيني وبين زوجي رغم أنني كنت أظن أنني زوجة صبورة ومثالية. إلى أن أخبرني أخيرًا، بعد حياة زوجية استمرت أكثر من 18 عامًا، أنه سيتركني إلى الأبد.

حاولت العائلتان التدخل لإصلاح الأمور، لكن لا شيء نفع في إقناعه بالعدول عن رأيه. وأقول عن رأيه، لأنه لم يكن لدي أي رأي في قرار الطلاق. فهو اتخذ موقفه من جانب واحد وفضل أن يتخلى عن زوجة بثلاث أولاد، بدعوى أنه لم يعد باستطاعته التكفل بالأسرة، ويريد الانتقال إلى مدينة صغيرة للعيش فيها بمفرده.

وقت صعب:

كانت فترة صعبة للغاية بالنسبة لي. أصبحت الليالي طوالا باردة، وأصبحت واطفالي نعيش على معونات أسرتي. أما أسرته فقد انقطعت عنا أخبارها تماما، منذ غادر ولدهم إلى مدينة، لم يكلف نفسه حتى عناء إخبار أبنائه باسمها.

أردت أن ألتجأ إلى المحكمة لأخذ نفقتي ونفقة الأولاد. ولكن أمي رفضت رفضا باتا أن أدخل وأولادي إلى المحكمة، وأمرتني أن أكتفي بما أعطاه لي زوجي قبل المغادرة. وأنها وإخوتي سيتكفلون بالباقي.

فكرت بيني وبين نفسي، كيف كانت ستكون حالي لو لم تكن لدي أسرة؟ لا أريد حتى أن أتخيل. بالتأكيد كنت وأولادي سنتشرد. ولكن إلى متى سيتحمل إخوتي هذا العبء، بالإضافة إلى أعبائهم؟ قد لا تكل أمي ولا تمل من مد يد المساعدة لي ولأطفالي، ولكن إخوتي يوما ما، سيفعلون.

كنت دائما أتساءل: هل أستطيع في اجتماعاتنا العائلية أن أكون مثلهم؟ نفس القيمة، ونفس الوزن داخل العائلة؟ هل سيستمعون لي عندما أتحدث وأنا الفقيرة التي لا تملك شيئا؟ وكيف أستطيع أن أدافع عن أبنائي عندما يكون بينهم وبين أبناء إخوتي شجار؟ كيف سأجرؤ على ذلك وهم يمددوننا بالأكل والملابس؟ هل أستطيع الحفاظ على كرامتي وكرامة أولادي وأنا أنتظر مساعداتهم كل شهر؟ هل يمكنني ذلك وأنا أتطلع لطرقاتهن على باب منزلي كل أسبوع حاملات معهن بعض المستلزمات والأغراض والملابس؟

انبعثت من الرماد

لقد تعلمت درسي الأول:

من الأفضل أن تترك كرامتك جانبا عندما تكون معدما ومرتبطا ماديا بشخص آخر أو بأشخاص. الكرامة تبدأ بالاستقلال المادي.

بداية الصحوة:

لقد كان ذهني مشلولا. لم أعش وحدي منذ أن كنت شابة. بدأ شعري يشيب، وأصبح لحمي مترهلاً، وكان سوق العمل غريباً تماماً بالنسبة لي. فقد لازمت المنزل قرابة عقدين من الزمن. كما أنني عانيت من الاكتئاب والقلق المزمنين. ولحضات السعيدة الوحيدة التي كنت أنعم بها، كانت عندما يصل أولادي في المساء، لنتحلق جميعا حول طبق الأكل ونتبادل سرد أحداث يومنا.

لكن شيئا ما كان يراودني بين الفينة والأخرى ويفتح باب أمل أمامي، وهو أنني كنت متعلمة. نعم لقد كنت حاصلة على إجازة في اللغة الانجليزية وكانت هذه اللغة أكثر شيء أحبه. أحببت القراءة بالانجليزية والحديث بها، وتذكرت كم كنت متألقة وأنا أحاضر بها في مرحلة الثانوية والجامعة. لقد كنت فعلا مميزة. ما الذي جعل كل هذا الوهج يختفي وراء طن من عدم الثقة بالنفس وأطنان من القلق من المستقبل؟!!!!!!

انبعثت من الرماد

كنت كل يوم عندما يغادر الأولاد، أجلس أما التلفاز غائبة عن كل ما حولي، محاولة جمع شتات روحي وبث الأمل من جديد في امرأة تعدت الأربعين ومعها ثلاثة أطفال، وتعتمد كليا على عائلتها من أجل الاستمرار.

وفي ظل كل هذا الكم من اليأس، كانت صورتي وأنا أحاضر وأجادل بالانجليزية تخترق هذا السواد لتؤكد لي أن المرأة التي كنتها لا تزال موجودة بداخلي، يكفي فقط رفع الأطنان المتراكمة عليها من غبار القهر والفقر والسنين، وصقلها بالثقة بالله للانطلاق من جديد.

فرصة العمر:

وقررت العودة إلى الحياة. كان قرارا صعبا أَحْبَطْتُهُ مرارا وتكرارا بالكثير من فقدان الثقة بالنفس والاحباط الذي كنت أغذيه بداخلي من خلال الأفكار السلبية. لكن رغبة البقاء والاستمرار وحبي لأولادي وتعبي من ذل انتظار المعونة، انتصروا أخيرا.

لم أخبر أحدا برغبتي في الخروج إلى عالم العمل والبدء من جديد لأني كنت أخاف كثيرا من الفشل ونظرة الناس. إن سنوات من القهر برفقة زوج بخيل ماديا وعاطفيا يمكن أن يخلق منك امرأة محطمة بدون شخصية. وقد كان. لكن الثقة بالله وحبي لأولادي كانا سلاحي الأكبر.

وتعلمت الدرس الثاني:

دراستك، متى توفرت لك الظروف، إياك أن تتركيها لأي سبب.

لا تتركي الدراسة أبدا

في البلد الذي أعيش فيه، اللغة الانجليزية كانت لغة نادرة وقليلون يستطيعون إتقانها، وكانت هذه نقطة قوتي الوحيدة والتي ستطغى على عامل السن الذي كان أكبر سلبياتي. بدأت في التقديم لتدريس اللغة الانجليزية بالمدارس الحرة لأن مدارس الحكومة تشترط سنا معينة تجاوزتها منذ زمن بعيد.

قدمت للكثير جدا من المدارس وبدأت أنتظر، وفي كل يوم يمر دون أن أتلقى إجابة، كنت أشحذ قوتي من توكلي على الله وثقتي به، ومن تفاؤل أدخلته تدريجيا في حياتي، حتى أصبح جزءا منها ومني.

وأخيرا حصلت على عمل:

مرت أيام طويلة، أو أنا خلتها كذلك، قبل أن أتلقى أول رد من مؤسسة تعليمية بعيدة جدا عن منزلي. كنت متأكدة أنني سأفوز بالمنصب لأنني كنت أدرك مدى إتقاني لهاته اللغة، لكن أيضا لأنني طوال فترة انتظاري تمكنت من الإعداد بشكل جيد لأي اختبار كتابي أو شفوي. كنت أدخل على المواقع التي تعطي نصائح حول طريقة إجراء مقابلات عمل ناجحة، وكل يوم كنت أطور من نفسي قليلا.

وفي صباح يوم المقابلة استعددت للخروج وكأنني داهبة إلى موعد غرامي. كنت متحمسة جدا وسعيدة جدا، وكان قلبي يخفق بشدة. تماما مثل لقاءات الحب الأولى. وتساءلت: هل يمكن أن تكون فرصة عمل بالنسبة لسيدة في مثل ظروفي أجمل وأهم من لقاء غرامي؟ هل مع تقدم السن، تتغير لدينا الأولويات؟ بالتأكيد! إنها الحقيقة التي اكتشفتها بعد سنوات. إن الأشياء الذي تصنع سعادتنا تتغير مع مرور الوقت وتقدمنا بالسن.

فالحب والزواج اللذان يشكلان حلم كل امرأة في سن معينة، قد يصبحان بدون أية أهمية في سن أخرى. وما قد يبدو لك الآن مسألة حياة أو موت قد يصبح بعض بضع سنين دون أهمية تذكر، بل وقد يصبح عبأ تحاولين التخلص منه.

خرجت من بيتي بعد أن نفضت عني غبار السنين وتزينت أمام المرآة كما كنت أفعل وأنا ذاهبة إلى الجامعة. إنني جميلة. نطقت هذه الكلمات بعفوية تامة بعد أن رأيت انعكاس صورتي على المرآة وأنا بكامل أناقتي.

كان حصولي على ذلك العمل أسهل ما في الأمر. فبعد لحظات من الحديث إلى شخصين استقبلاني بالمؤسسة أحسست، في نظراتهما المتبادلة، أن المنصب لي. لقد كانا مندهشين من مستواي في اللغة وأنا في هذه السن ولم يسبق لي العمل. وأخذت المنصب بعد المقابلة مباشرة، حيث أخبارني بقبولي ضمن طاقم التدريس بالمؤسسة. كان كلامهما يتحدث بشكل طبيعي جدا وعفوي، والأكيد أنهما أعادا هذه الكلمات على مسامع العديد من المترشحين قبل ذلك، لكن هذه الجملة بالنسبة لي كانت بداية حياة.

بداية التألق:

تفوق امرأة

كان المرتب مجزيا بالنسب لامرأة مثلي لم تتعود أبدا على الحصول على مال يخصها. كنت سعيدة جدا وراضية، وَأَعْلَنْتُ الخبر أمام كل العائلة. وبين مصدق ومشكك ومصدوم ومرتاح لأنه لن يضطر إلى إعانتي بعد ذلك، كنت أنا الرابحة الوحيدة والأكثر سعادة بين الجميع. أكثر سعادة حتى من أبنائي الذين تحلقوا حولي لتشجيعي ومباركة خطوتي.

بعد ذلك بعدة شهور، بدأت في التقديم إلى مؤسسات قريبة من محل سكني وَقُبِلْتُ في العديد منها، واخترت تلك التي ستمنحني راتبا كافيا يجعلني في غنى عن أية مساعدة.

بعدها بشهور بدأت أُدَرِّسُ في ثلاث مؤسسات تعليمية في نفس الوقت، وكان تفوقي ومهاراتي حديث الجميع، إلى درجة أن بعض المؤسسات بدأت تتصل بي لعرض مقترحاتها دون أن أقدم لديها. لم يكن أحد يعرف أن هذا المستوى المتميز في العمل هو خياري الوحيد. والجميل أن كل ذلك تحقق في سنتين.

لقد كانت رحمة ربي بي أكبر من كل تصوراتي.

اكتشاف مذهل:

كنت قد نسيت زوجي تماما وأنا أنتقل من نجاح إلى نجاح. لقد نسيت حتى ملامح وجهه، وهذا كان بالنسبة لي مفاجئا وغريبا. لقد تغيرت أولوياتي تماما، وكل الناس التي لم تعد مرتبطة بأولوياتي تلاشت من حياتي وتلاشت معها ملامحها.

لكن القدر، قد يضعك أحيانا أمام ماضيك، فقط ليتبث لك، أن رحمة الله بك، كانت أعظم من كل ما طلبت منه.

علمت بعد سنوات من طلاقي أن زوجي لم يغادر أبدا المدينة التي كنا نعيش فيها. كانت مدينة كبيرة بالفعل وهو اعتمد على ذلك للاختفاء من حياتي وحياة أولاده. كان قد وقع في حب فتاة عمرها 21 سنة وقرر الزواج بها وهي أغرته وطلبت منه أن يطلقني لتثبت له أنها تحبه وتغار عليه. وهو نفذ على الفور.

كانت تنحدر من أسرة فقيرة وتدرس في معهد خاص بمظيفات الطيران وكانت بحاجة لمغفل يدفع ثمن دراستها وكل ما يتعلق بها. ولأنها كانت جميلة، لم تجد صعوبة في إيجاد هذا المغفل، وقد كان زوجي.

فجأة اختفى البخل واختفت الشكوي من قساوة الأيام وارتفاع الأسعار. فجأة بدأت الأموال التي راكمها طوال سنوات، وحرمني وأولاده منها، بالظهور. وصرف على حبيبته ببذخ. لقد أنفق عليها بحب رجل تجاوز الخمسين لفتاة جميلة في العشرين. كان يشترى رضاها بالكثير جدا من المال، وكلما أعطى كلما بالغت في الطلب. وعندما تخرجت، عملت بإحدى شركات الطيران الكبرى واستقرت في نفس البلد الذي يوجد به مقر الشركة، والذي يبعد كثيرا جدا عن بلدنا. لقد استغلته بشكل ذكي وهجرته لأن مهمته كانت قد انتهت. وفوق مكره كان مكر الله.

وتعلمت درسي الثالث:

يكفي أن تكون سريرتك سليمة لينتقم لك الله شر انتقام ممن ظلمك. فلا تستعجل الانتقام واحتسبه عند الله، فوالله إن انتقام الله أَمَرٌّ مما يمكنك تصوره مهما بلغ خيالك.

حقيقة زوجي

أخت زوجي تقترح لم الشمل:

لقد حكت لي أخت زوجي كل هذه التفاصيل عندما التقتني يوما في واحد من أكبر مولات المدينة. توقعت أن تكون خجلة وهي تحكي لي سقوط أخيها المدوي في بؤرة الاكتئاب واليأس، لكنها لم تكن أبدا كذلك، بل كانت تحكي لي كل هذه التفاصيل برجاء عودتي وأبنائي لحياته من جديد، حتى نستطيع إخراجه من يأسه والعودة به إلى الحياة العادية، بعد أن خسر معظم ماله على حب مدمر. حينما انتهت من حديثها، لا أدري لماذا أجبتها بقسوة شديدة جدا. قسوة لم أعهدها في نفسي يوما، لكنها بالتأكيد قسوة الأيام والمعاناة والخذلان والقهر.

أخبرتها أنني لا أتذكر حتى ملامحه وأن حياتي أصبحت رائعة بدونه فلماذا أختار العودة إلى الجحيم وأنا في نعيم. قلت لها أولاده كل واحد منهم يتوفر على هاتف، إذا أراد التواصل معهم فليفعل. لم أنتظر جوابها ورحلت. وكانت رحلة بدون لقاء ثان. فلا هو حاول التواصل مع أولاه ولا هي حاولت التواصل معي من جديد، وكانت حياتنا رائعة من دونهم.

لقد اكتشفت أخيرا أن زوجي كان ميسورا جدا، لكنني وقت اكتشافي لهذا السر الذي ظل مخبئا عني وعن أولادي لسنوات، لو يعد أبدا مهما. فقد أدركت أخيرا وأنا في سني هذا، أن المال فعلا لا يصنع السعادة وأن السعادة مرتبطة بأشياء أخرى كثيرة، معظمها بسيط جدا.

درس أبدي:

أنا الآن أبلغ من العمر ثلاث وأربعين سنة، ورغم أن هذه السن قد تبدو كبيرة بالنسبة للكثيرات، لكنني أحس بداخلي أنني شابة. كنت أحس أن سنوات زواجي وكأنها اقتصت من حياتي ولم تحتسب.

شهادة حقيقية لامرأة

لقد أدركت باحساس ويقين بالغين أن الشباب لا يرتبط بالسن. فالشباب هو بالفعل مسألة إحساس وأنا عشت ذلك بكل تفاصيله. كنت أتجمل كل صباح وكأنني ذاهبة للجامعة. والغريب أنني كنت أجد متعة كبيرة عندما تقول لي إحدى طالباتي أو أحد طلابي كلمة مجاملة عن أناقتي وشياكتي. كنت أبدو أنيقة بأقل الأشياء، فقد كان ذوقي راقيا منذ طفولتي وكنت أستطيع تحويل الأشياء البسيطة إلى أشياء تبدو غالية وأنيقة بالقليل من الاكسسوارات والحيل.

إذا كنت تودين تطوير هذه المهارة، أدعوك للاطلاع على مقالتي: العمل على مظهرك لاكتساب الثقة

عندما بدأ الجميع في المؤسسات التي أعمل بها يتحدثون عن كفائتي وأناقتي أدركت كم ظلمت هذه المرأة التي بداخلي. كم دفنتها لسنوات تحت تلال ضخمة من عدم الثقة بالنفس والانتظار. لقد أعطاني الله الكثير من الصفات والهبات ولم أستعمل منها إلا القليل جدا لأصل إلى ما وصلت إليه. فسبحانك ربي لن أعبدك أبدا حق عبادتك.